بقلم : ملاك الأكحل
مقدمة:
بعد أشهر عديدة من التنديد في خطاباته بـ”البيوعين” و”خَوَنة الوطن” و”المضاربين”، يبدو أن البذور التي زرعها قيس سعيد منذ شباط/فبراير 2023 بدأت تؤتي ثمارها أخيرًا، ويبدو أيضًا أن حصاد “الخوَنة” واعدٌ إلى حد كبير. ومنذ اعتقال شخصيات سياسية معارضة لقيس سعيد، من المُتَهَمين على وجه الخصوص بلقاءاتهم مع دبلوماسيين أجانب، تهاطلت الاتهامات بالخيانة، مع تناقلها والترويج لها هنا وهناك من قبل بعض مساندي النظام. وتجدر الإشارة بطبيعة الحال، أن هذه الاتهامات ليست جديدة، وأن هذه الظاهرة متكررة لدرجة أن اللغة العربية أفردت لها كلمة خاصة وهي”التخوين”.
في هذا المقال سوف أركز على هذه التهمة تحديدًا، أقصد الخيانة وأصولها واستخداماتها السياسية، استنادًا إلى عدد من الملاحظات التاريخية والسياسية والاجتماعية. لكن من الضروري قبل ذلك القيام بمراجعة تاريخية لمسألة “الخيانة” في تاريخ تونس منذ الكفاح من أجل الاستقلال. إذا كانت اتهامات النظام الحالي تقوم عمليًا بإعادة تدوير اتهامات نظامي بورقيبة وبن علي، إلا أنها تشكل مع ذلك استمرارية مع التحوّل الديمقراطي، بحيث نشهد الهواجس التآمرية نفسها، و”الأيادي الخفية” نفسها تخيم في الأجواء.
وفي مرحلة لاحقة، سوف نعود إلى الفائدة المستخلصة من تهمة “الخيانة لصالح الأجنبي” المستعملة من قبل الأنظمة الاستبدادية. وبالفعل، فمن خلال اختراع المؤامرات واصطناع “الخوَنة”، تُرَسخ هذه الأنظمة فكرة مفادها أن الشعب عاجز بنفسه ولا يمكنه الاعتماد إلا على “المنقذ”، قيس سعيد، مع تجديد سياسات الانتظار في مواجهة وضع اجتماعي يتدهور باطراد. إلى جانب ذلك، فإن توجيه تهمة الخيانة تأتي لتخلق نوعًا من الوحدة الوطنية، وفي الوقت نفسه تغطي على الصراعات الطبقية الحقيقية، فبالنسبة لأي دولة تسيّر وفق اقتصاد منفتح مثل تونس، من الأفضل أن يكون لها شعب، مُقَسَم بين شعب و”خونة”، بدل من أن يكون منقسما شعب بين طبقة بورجوازية وطبقة بروليتارية، بحيث تبقى الدولة بين أيدي الطبقة الأولى. ويضاف إلى ذلك، الخطاب المتشدد تجاه الغرب الذي يعطي الانطباع بأن الدولة تستعيد رفع مشعل التحرر الوطني. وبهذه الخطة، تناور الدولة وتقوم بعملية صرف الأنظار عمّا لا يزال يمثل إحدى تناقضاتها الرئيسية: كونها دولة وريثة للنضال من أجل الاستقلال وفي الوقت نفسه، تعيد إنتاج التبعيات وأوجه الارتهان لمرحلة ما بعد الاستعمار.
وفي الأخير، نطرح السؤال حول مدى فعالية هذا النوع من الخطاب في تونس الحالية. بالفعل، نجد أن مخيّلة “الخيانة” تعكس صدى التوّترات الطبقية التي تعمل بعمق داخل المجتمع التونسي، خاصة على المستوى الثقافي، والتي تبلورت في شكل عداء شديد تجاه الطبقة السياسية القديمة المتهمة بتحقيق الثراء على حساب الشعب. وهذا البعد الطبقي المستشعر وسط المجتمع يتنكر له النظام، ويحوله إلى مسألة خيانة. ومن خلال الالتفاف على هذه المشكلة، يتفاعل النظام الحاكم مع توّتر اجتماعي حقيقي، ومثل هذا الأمر، قادرٌ على أن يحقق له دعمًا، بل وقد ينشئ كتلة اجتماعية تسنده، لكن غياب مشروع سياسي، باستثناء مخطط إقصاء الخونة، وخاصة الاستحالة المالية والسياسية للعودة إلى العقد الاجتماعي ما بعد الاستقلال، والسكوت إزاء واجب الحماية الاجتماعية، قد يجعل من الصعب استمرار فعالية هذا النوع من الخطاب مع مرور الوقت.
خوَنة الماضي
يبدو أن تهمة “الخيانة لصالح الأجنبي” هي تهمة عابرة للعصور وغير قائلة للاندثار، حيث يتم تحديثها باستمرار من قبل القوى الاستبدادية، لتتماشى مع حيثيات المرحلة. وكما هو الوضع في جميع البلدان التي تعاني من أشكال عدم الاستقرار السياسي، يُعتَبَر رسم خط فاصل بين الخونة والوطنيين، شكلٌ من أشكال “احتكار شرعية السلطة من خلال محاولة السيطرة على حدود المقبولية السياسية وممارسة السلطة في مواجهة الانتماءات السياسية المتغيّرة باستمرار”.1 وفي هذه الأوقات التي تسيطر عليها حالة من عدم الاستقرار السياسي، تُوَظف تهمة الخيانة لإعادة رسم حدود الجماعة بحسب مصالح الفئة المسيطرة على السلطة: وبذلك يتحوّل المعارضون إلى دخلاء لا مكان لهم داخل الجماعة، بالنظر إلى ولاءاتهم الخارجية المزعومة. ولطالما اكتسبت هذه الاتهامات فعالية سياسيًا داخل البلدان المستعمرة سابقًا، حيث لا يزال الوعد بتحقيق “الاستقلال الحقيقي”، أي نهاية الاستعمار الجديد، وبشكل أكثر رمزية، العودة إلى شكل من أشكال “النقاء”،2 يعبئ القوى السياسية، داخل أركان السلطة وحتى وسط المعارضة.3
تاريخ “الخونة، عملاء الأجانب”
بورقيبة ضد بن يوسف
ربما تجدر العودة هنا إلى الصراع الذي نشب بين صلاح بن يوسف والحبيب بورقيبة على زعامة الحزب الدستوري الجديد، ومن ثم على زعامة الدولة المستقلة. حتى لو لم يكن بالإمكان الحديث في هذه المسألة عن الخيانة لصالح الأجانب، فمن الضروري العودة إلى هذا الصراع، لكونه يُدخِل تونس المستقلة عهدًا من أنماط الإجماع القسري. ودون الخوض في تفاصيل الصراع الذي كشفه بأمانة كتاب المؤرخ محمد والدي،4 يمكننا مع ذلك أن نتساءل معه لماذا، ما كان يمكن أن يشكل “معارضة سياسية” صحيّة بين رؤيتين سياسيتين، تحوّل إلى صراع عنيف بين معسكرين يسعى كل منهما إلى احتكار الدولة التي تركتها فرنسا.
وفي محاولته لتفسير ذلك، يؤكد مؤلف الكتاب محمد والدي على مفارقة جديرة بالذكر في التاريخ، حيث يقول: “السلطة الوطنية الجديدة التي استولت على بعض الهياكل الشرطية والقانونية التي وضعتها سلطات الحماية، تستعمل بدورها على مدار هذا الصراع الدائر بين رفاق الدستور الجديد السابقين، مصطلحات وهواجس القوة الاستعمارية نفسها: مصطلحات فرض النظام ورفض الاحتجاج الداخلي”.5
وبنظرة إلى الخلف، نرى كما يشير المؤرخ محمد والدي، أنه من خلال اعتماد خطاب يركز على الأولوية المطلقة للدولة، برر بورقيبة حملات القمع ضد اليوسفية، قائلاً: “لكسر أعمال التخريب والفوضى، اضطررنا إلى الضرب بقوة، دون الأخذ بعين الاعتبار ماضي الأشخاص، الذين لم يترددوا في مهاجمة الدولة، مخاطرين بتدمير سمعتها وإمكانياتها وإظهارها وكأنها عاجزة عن الاضطلاع بأقدس واجباتها: ضمان النظام العام وأمن الأفراد”.[6]
إن مسألة “سمعة وهيبة” الدولة، أو استخدام تعبير التحوّل الديمقراطي، تُطرح بانتظام في التاريخ التونسي المعاصر. ويتم تصوير الدولة الناشئة عن الاستقلال، على أنها كيان مقدس، يعلو فوق الأفراد والطبقات الاجتماعية، ويكاد يرتقي إلى مرتبة الروح، بالمعنى الهيجلي.6 ويجب الدفاع عن الدولة، وفق هذا المفهوم السياسي، مهما كلف ذلك، مع التصدي لكل “الهجمات” مِن أي جهة كانت. وبالفعل، فإن تقديس الدولة، يقترن بخطاب يركز في المقام الأول على شباب هذه الدولة نفسها، لإبراز هشاشتها في مواجهة عدد من التهديدات، معظمها خارجية. وبذلك، يتم تصوير الدولة دائمًا على أنها كيان مهدد بالخطر. وفي هذا السياق القومي الذي يجعل من “الدولة التونسية، دولة الشعب قاطبة، ودولة كل فرد في الوطن”،7 تصبح معارضة السلطة بالتالي خيانة، ومؤامرة ضد “أمن الدولة”. ومن خلال تحويل المعارضة السياسية إلى تهديد وجودي، تجعل السلطة من اختفاء المنافسة السياسية قضية بقاء أو فناء للوطن، ووفق هذا التوّجه يتحوّل ما هو في الأساس مجرد مصالح سياسية خاصة لمن هم في السلطة، جزءًا من الهوية الوطنية.8
مكافحة التخلف
بعد التخلص من الخطر اليوسفي، باغتيال بن يوسف في عام 1961، لم تختف مع ذلك الحاجة إلى فرض النظام ومنع الاحتجاج الداخلي. وقد شهدت تونس انبعاث هذه الهواجس الاستعمارية من خلال خطابات مروّجة لمزايا اللحاق بقطار “الحداثة”. إن الحاجة المُلّحة “للحاق بقافلة الأمم” وفق تعبير بورقيبة، تتطلب أن يصبح الشعب، المتخلف في نظره، كتلة موّحدة، وأن ينصاع كلية للدولة الحديثة التي تعرف الطريق الواجب اتباعه. ومن هذا المنطلق، وباسم ضرورة اللحاق بالركب، سُدت الأبواب في وجه جميع أشكال التسامح مع أي قوة معارضة أو احتجاج. وقد عبّر الناشط السياسي صدري خياري على هذه السياسة قائلاً، “شعاره [يقصد بورقيبة] هو النظام؛ والنظام هو الدولة؛ والدولة هي بورقيبة. والشعب، بحكم تعريفه “غير ناضج” دائماً، وبحاجة إلى سيّد يطعمه، ويرشده، وينظفه، ويوّبخه، ويقوّمه، وفوق كل ذلك، لا ينبغي اعتباره بالغاً”.9 ومن وجهة النظر هذه، تكون الدولة “شابة” عند تعاملها مع العالم الخارجي، وأبوية في تعاملها مع شعبها.
ولا يزال النظام الحاكم يصوّر الدولة المستقلة حديثاً على أنها ضعيفة ومهددة، لا سيما على المستوى الاقتصادي الدولي، وهي في الواقع دولة مُهَيمَن عليها. وكان يُفترَض في السعي إلى “التحكم في مؤسسات الاقتصاد السياسي الدولي” أن يؤدي إلى الاستقلال10 “الحقيقي”، باعتبار أن الاستقلال السياسي لم يكن سوى جزءً من المهمة. وهذا “الضعف” في الدولة يحمل في طياته شبح الاستعمار الجديد المتوغل في اقتصاد “منهار، تابع، موّجه نحو الخارج”.11 وفي مواجهة هذا التهديد، لم تطالب السلطة القائمة مواطنيها بأقل من وحدة الشعب قاطبة خلف الدولة، مع رفض أي تباين في الآراء، والتزام وحدة الصف على حساب جميع الحريات: “لقد حلّ التحرر الوطني محل جميع الحريات الشخصية، وشكل هذا التحرر الحرية الحقيقية الوحيدة، والحرية الملموسة الوحيدة، والحرية المقدسة الوحيدة”.12 ومما يزيد في قوة هذا المطلب من السلطة أن خطابها يربط مباشرة بين الضعف والانقسام، مفسراً ظهور الاستعمار الغربي من خلال حالة انقسام الأمة:13 “استخلاصًا للدروس من هذا التاريخ الطويل المؤلم و”المؤسف” تقول السردية الوطنية، ترى الأمة أن التهديد الداخلي الأكبر الذي تواجهه، يتمثل في شبح الانقسام” ولتأكيد وجهة نظرها، اعتمد المسؤولون في قمة السلطة، خطابًا جعل من “الانقسام”14 نزعة رجعية مترسخة في الشعب، يجب على الدولة أن تحاربها في سياق اللحاق بقافلة الأمم.
لقد أصابت الكاتبة التونسية هالة الباجي عندما أشارت في عام 1982 إلى أن الدولة نفسها الضعيفة اقتصاديًا على المستوى الدولي يمكن أن تكون، داخل حدودها، قوية سياسيًا، بل وحتى قمعية. وفي الحالة الراهنة التي يصاحب فيها شبح عدم إمكانية دفع المستحقات، حملات اعتقال المعارضين بتهمة التخابر المزعوم مع جهات أجنبية، يمكننا حتى مشاطرة الكاتبة، رغم السنوات الأربعين التي تفصلنا عن عملها، عند قولها أن “الضعف الاقتصادي للدولة الوطنية لا يؤدي إلى احتضارها السياسي، إذ نلاحظ أن الروح القومية تتعاظم تدريجياً مع تدهور المجتمع اقتصاديًا”.15
ولهذا السبب، تم في عهد بورقيبة، تحت إدعاء ضرورة الوقوف كتلة واحدة خلف الدولة الضعيفة على المستوى الدولي (التي أصبح استقلالها هشًا) والسعي إلى اللحاق بالحداثة دون إضاعة الوقت، خنق كل المعارضات والانقسامات، بعد وصمها بالرجعية أو الخيانة.
الخيانة في عهد بن علي
عرف عهد بن علي هو أيضًا خوّنته، حيث كان له خونة من جهة الإسلاميين، ومن اليسار أيضًا، خاصة من وُصِفوا بدعاة “حقوق الإنسان”، أي التيارات التي شكلت في عهد بن علي “المعارضة التونسية”. إن ضُعف تجديد النخب السياسية، تجعلنا في كثير من الأحيان، نَجِد بين صفوف خوّنة اليوم، أولئك الذين وجِهت لهم تهمة الخيانة في عهد بن علي.
وفي سياق استمرارية الإرث البورقيبي الاستبدادي الحداثي، تم عزل الإسلاميين بشكل جذري من قبل السلطة ومن طرف مجموعة من المواطنين في عهد بن علي. ونُفِذت عمليات قمعهم من قبل أجهزة السلطة، في ظل تجاهل ولا مبالاة مجموعة من تيار اليسار الذي فضل التموْقع إلى جانب الدولة الحديثة بدلًا من الدفاع عن الحقوق السياسية لخصومهم، الذين أصبح يطلق عليهم اسم “الخونجية” والمتهمين باستيراد نموذج مجتمعي غريب عن تونس. وتكمن “خيانة” الإسلاميين التونسيين في نظر هؤلاء، في مساعيهم إلى استيراد إسلام “راديكالي” يُعتبر غريب عن أهل تونس، وعملهم بالتالي على إضعاف هوية تونس”التعددية”16 و”المتسامحة” المفترضة، واتُهِم الإسلاميون أيضًا بأن لديهم ولاءات تتجاوز الحدود الوطنية، من خلال عضويتهم المفترضة في حركة الإخوان المسلمين.
أما فيما يخص مناضلي “حقوق الإنسان”، فإن التهمة الموّجهة إليهم مختلفة، إذ تعتبرهم السلطة خوّنة يتقاضون أجورًا من محافل أجنبية بقصد تشويه صورة تونس. ويمكن النظر إلى هذه التهمة على أنها تشكل أول رد فعل من جانب السلطة في مواجهتها لتصاعد خطاب حقوق الإنسان والإرهاصات الأولى في بروز شبكات المنظمات غير الحكومية. يُتهم أنصار “حقوق الإنسان” في ضوء علاقاتهم بمنظمات حقوق الإنسان غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية ومراسلون بلا حدود وهيومن رايتس ووتش، واستعانتهم بهذه القنوات المدافعة عن حقوق الإنسان لإيصال صوت قضاياهم إلى الغرب، وبالتالي يؤخذ عليهم دعواتهم إلى “التدخل” فيما تعتبره الدولة شؤونها الداخلية الخاصة.
يكتسي طابع تهمة تقاضي الأجور من جهات أجنبية (وهي مزاعم كاذبة في كثير من الأحيان) أهمية خاصة، والقصد من ذلك واضحٌ، حيث يهدف إلى إبراز هذه الفئة على أنها تسعى إلى تحقيق مصالح شخصية، إضافة إلى اتهام المعارضين بفساد الذمة المزعوم، في تناقض صارخ بطبيعة الحال مع حالة الفقر التي يعاني منها عامة الشعب الطيب وتعفف الوطنيين، الحريصين على خدمة وطنهم، الذين لا يلطخون أيديهم بأموال الجهات الأجنبية. تهدف هذه التهمة أيضًا إلى عزل المعارضين عن الشعب، من خلال إبراز السلطة صفة النخبوية لهذه المعارضة، وانتمائها القسري في كثير من الأحيان لمناطق مختلفة في العالم، نظرًا لتواجدهم في المنفى الاضطراري، وكل ذلك سعيًا من السلطة إلى تجريدهم من انتمائهم إلى الأمة. إلى جانب ذلك تسهم هذه الاتهامات في ترسيخ الفكرة التي تصوّر المعارضين اليساريين على أنهم نخب غير معنية بحشد “الشعب” حول قضيته، وهي تهمة كثيرًا ما رددها الباحثون الذين بحثوا في موضوع تونس في عهد بن علي.
إضافة إلى ذلك، اتُهم المعارضون بـ”تشويه صورة تونس في الخارج”. وبذلك لم يتهمون بنسج علاقات بالأجانب فحسب، بل بأنهم يعملون على “نشر أخبار تسيئ” لبلادهم في الخارج. ويمكن تفسير الغرض من هذه التهمة الموّجهة إلى المعارضين، من جهة، إلى مساعي نظام بن علي إلى حد كبير إلى تسويق صورة تونس مستنيرة كدولة إسلامية حديثة ومتسامحة لجذب السياح والمستثمرين. وبالتالي كان “تشويه صورة تونس في الخارج” في نظر النظام بمثابة تخريب مباشر لاستراتيجيته الاقتصادية الوحيدة. ومن ناحية أخرى، يجب أن يُفهم هذا الاتهام على أنه، تذكير على المستوى الوطني بالفكرة التي تحرص على ضرورة اقتصار مناقشة أمور الأسرة بين أفرادها فقط وليس خارجها. وكثيراً ما كانت الدولة التونسية سريعة جداً في استخدام هذا المثل الشائع بين الناس، قصد تشبيه الوطن بالعائلة الكبيرة (يكون فيها رئيس الدولة هو رب البيت، الآمر والناهي)، وهذا التشبيه استخدمه بدوره وزير الخارجية الحالي نبيل عمار.17
التحوّل الديمقراطي، سبات غير قابل للكسر
عند مقارنتها بالأنظمة الاستبدادية في عهد بورقيبة وبن علي وسعيد، تبدو الفترة الثورية وبعدها مرحلة الانتقال الديمقراطي بمثابة ملاذ للسلام، ولم يعد لخطاب الخيانة مكاناً في المجال السياسي، لكن، إذا أمعنا النظر بدقة، نرى أنه بالرغم من عدم توجيه اتهامات بالخيانة مباشرة إلى المعارضين السياسيين خلال العقد الديمقراطي، لم نشهد مع ذلك قطيعة أبدًا مع العالم الذي ساد فيه مثل هذا الخطاب. فمن جهة، شهدت السنوات الأولى من التحوّل الديمقراطي استبدال فكرة “خيانة الوطن” بفكرة “خيانة أمة المؤمنين”، ومن جهة أخرى، ولعلّ هذا هو الأهم، فإن عالم التآمر المرتبط بـ “خيانة الوطن” (“جهات معينة”، “الغرف المظلمة”، “المصالح/والأجندات الغامضة” وما إلى ذلك) تم تعبئته من قبل كل مَن تبوؤا السلطة خلال العصر الديمقراطي.
خلال الفترة التأسيسية (2011-2013)، لجأ الحزب الإسلامي وحلفاؤه السلفيون آنذاك إلى “تكفير” المعارضين، أو إقصائهم من جسم أمة المؤمنين. واتُهمت “النهضة” بأنها مهدت الطريق، على الأقل، وساهمت في انتشار بيئة مواتية للاغتيالات السياسية لشخصيات مثل شكري بلعيد ومحمد براهمي في عام 2013، من خلال استعمالها خطاب تكفيري للمعارضة “العلمانية”. وقد اتهمت الأحزاب القومية العربية التي ينتمي إليها الشخصيتان، حزب النهضة مباشرة بالوقوف وراء هذه الاغتيالات. وقد أدى هذا الخوف من “التكفير” إلى ظهور فترات فريدة من نوعها، تكاد لا تصدق حيث أصبح فيها تجريم التكفير متضمنًا في الدستور في نص كانون الثاني/يناير 2014 ردًا على تهديدات بالقتل تلقاها النائب في ذلك الوقت، منجي الرحوي، الذي أصبح اليوم أحد داعمي النظام. ثم تلا منطق الإقصاء من جسد الوطن، منطق الإقصاء من أمة المؤمنين، ويستخدم بشكل أو بآخر المناورات نفسها، لكن هذا المنطق فقد تدريجيًا قوته ومجال نفوذه، وفي مساعيها إلى التحوّل إلى حزب “إسلامي محافظ”، قامت “النهضة” بتهميش أنصار هذا الخطاب مثل الحبيب اللوز ونور الدين الخضر تدريجيًا.
وبموازاة تيار “التكفير”، ظهر اتجاه آخر في الساحة السياسية، يتعلق بتيار المؤامرة. في وقت مبكر جدًا من العملية المؤسسية التي انطلقت في عام 2011، فرض المجال المعجمي المرتبط بالمؤامرة18 نفسه كركيزة للخطاب السياسي: المتآمرون، و”الأجندات الخفية”، و”الأيادي الخفية”، و”الغرف المظلمة” حيث يتم تقرير الأمور وتتخذ القرارات دون علم الشعب، وخاصة “الأطراف”، “أطراف معينة” الذين يريدون، بحسب الحاجة، زعزعة استقرار البلاد والحكومة وحزب سياسي معين، وما إلى ذلك.19 وهذه الخطابات، التي تعتمدها السلطة بشكل منهجي، لا تحدد أبدًا اسم المُتهم بشكل واضح صريح، لكنها تتصرف بطريقة تشبه إخراج نهاية مشوّقة لمسلسل في نهاية الموسم، بحيث تتيح لها فرصة إدارة حالة الانتظار والترقب من خلال الوعد بحل للقضية، حل لا يأتي أبدًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن اتهام “الأطراف” يسمح بتحميل المسؤولية عن الإخفاقات إلى الغير أو تأخير هذه الحلول المزعومة، ومن دون قطع الصلة وتنفير حلفاء محتملين في المستقبل. وقد ساهم هذا التملص من المسؤولية في إيجاد مناخ من عدم الثقة المُعَمَمَة، بما أن العملية السياسية برمتها كانت، وفق تصريحات “القادة السياسيين” أنفسهم، مخترقة من طرف هذه “الأطراف”.
حول فائدة الخونة في ظل الحكم الاستبدادي
عودة الوصفات القديمة
إجمالا، لم يبتكر قيس سعيد جديدًا، فكل ما فعله أنه ذهب إلى حدود أبعد وأخطر ممن سبقوه من السياسيين في السلطة لفترة طويلة بين عامي 2011 و2021: فبعد أشهر عدة من الاتهامات المعتادة ضد “الأطراف” الغامضة، مع الوعد بكشف الأسماء لاحقًا،20 شرع في اعتقال المعارضين الأكثر انتقادًا له. يمكننا القول، على نحو ما، إذا كانت بذور قيس سعيد قد أتت ثمارها اليوم، فذلك يعود لخصوبة التربة التي حافظ عليها الفاعلون السياسيون إبان مرحلة التحوّل الديمقراطي.
إلى جانب ذلك، أصبحت السلطة الحالية تستخدم من جديد خطابًا يثير الرعب، يتمحور حول خطر انهيار الدولة، ويبرر بالتالي فرض حالة الاستثناء. وفي مثل هذا المناخ، فالدولة التي تعود إلى الأيام الأولى للاستقلال، تتحوّل مرة أخرى إلى ذلك الكيان الضعيف والمهدد الذي يجب على الجميع الاصطفاف خلفه. وفي هذه الحالة، يكون الضعف ذي شقين، نجد بالطبع الضعف على المستوى الدولي، أي شبح الاستعمار الجديد المخيم في الأجواء، والذي أصبح على الأرجح، وبالنظر إلى التبعيات المتعددة للبلاد (الغذائية، المالية، الطاقة)، حقيقة واقعة أكثر فأكثر، لكننا نجد أيضاً شبح “الانقسام” الذي يضعف البلد حسب رواية السلطة. وتجدر الإشارة أن الانقسام المشار إليه هنا ليس سوى العقد من الزمن التي شهد التعددية السياسية في البلاد، والذي أصبح منذ ذلك الحين، وفق تصريحات النظام والاتحاد العام التونسي للشغل، “العقد الأسود”.
لذلك، نلاحظ استمرارية خطابية جد واضحة بين السنوات الأولى للاستقلال والوضع الحالي. تُصَوّر السلطة وضع الدولة في الظروف الراهنة على أنها ضعيفة ومهددة من الخارج (الاستعمار أو الاستعمار الجديد)، مما يفرض عليها أن تكون قوية وألا تتسامح مع أي معارضة داخلية، ووفقًا لهذا التصوّر، تصبح المعارضة السياسية لسعيد تهديدًا وجوديًا للدولة. وفي خوض حربها ضد “الخوَنة”، تهدف الدولة الضعيفة والمهددة إلى إعادة توحيد المجتمع وتأسيس إجماع بين جميع فئات الشعب للوقوف خلف الدولة. وفي الوقت نفسه، في حملتها ضد المعارضين، تعود بقوة إلى استخدام خطاب عهد بن علي: الإسلاميون “غرباء” لا مكان لهم في البلاد، ودعاة “حقوق الإنسان” “خونة” يطرحون شؤون بلدهم الداخلية في الدول الغربية من أجل الضغط على تونس وفتح الباب أمام التدخل الأجنبي.
“الغرف المظلمة” أو تجديد سياسات الانتظار من خلال استعمال شبح المؤامرة
في وقت الأزمة المتعددة الأبعاد التي تمر بها البلاد، تصبح الاتهامات بالمؤامرات والخيانة، طوق النجاة الوحيدة المتاح أمام قيس سعيد، إذا أراد الاستمرار في التملص من مسؤوليته السياسية عن حالة التقشف المستمرة التي ينتهجها نظامه. فيما يخص النقص في تزويد الأسواق بما يكفي من المواد الغذائية التي تؤثر على بعض المنتجات الأساسية (الخبز والدقيق والقهوة)،21 حيث تظهِر الأرقام تقسيم حجم واردات الدولة بما لا يقل عن 10 بالنسبة للقهوة بين شباط/فبراير ونيسان/أبريل 2022 و2023 22 وانخفاضًا بنسبة 25.53٪ في القمح اللين (الخبز)23 في الفترة نفسها، يفسر سعيد اختفاء هذه المنتجات من الأسواق بمؤامرة تُحبَك في “غرف مظلمة”.
وفي الوقت نفسه الذي يتم فيه إبعاد فكرة المسؤولية السياسية بحد ذاتها، يُعَزِز هذا اللجوء الدائم إلى مؤامرة “الغرف المظلمة” الشعور بالعجز ويسلب المواطنين من كل ما له علاقة بالشأن العام، ويرسخ في نفوس الأفراد الشعور بأنهم مهما فعلوا، فمصيرهم ليس بأيديهم، بما أن هذا المصير يُحدد بعيدًا عنهم في مكان آخر، في غرف مظلمة لا يمكن الوصول إليها.24 وهذا اللجوء إلى الخيال التآمري يحتقر قدرات الشعب ويجعل السلطة تتعامل معهم معاملة الصبيان العاجزين، وينزع عنهم الحس السياسي، بحيث يمكن تلخيص هذه الحالة في الآتي: بما أن الشعب يواجه قوى تتجاوز قدراته، فليس أمامه خيار سوى أن يضع مصيره بين أيدي المنقذ وينتظر. وفي هذا المناخ النفسي، يتخلل هذا الانتظار عمليات الاعتقال الهوليوودية لـ”الخونة”، لتعطي الانطباع بأن المعركة تحرز تقدمًا، والمفارقة أنها تحدث في الأماكن نفسها التي أصبحت فيها الظروف المعيشية أكثر صعوبة.
الوحدة وخوَنتها
صاحب موجة الاعتقالات خطابٌ كلاسيكي إلى حد ما، يدين “التدخل الأجنبي” من الغرب (أو على وجه التحديد، التدخلات التي لا تخدم مصالح النظام، في المقابل كان التدخل الإيطالي لدفع صندوق النقد الدولي إلى تقديم قرض سريع لتونس موضع ترحيب). إن الخطاب “القوي” المناهض للتدخل، الذي تميزت به خطابات سعيد ووزير خارجيته، ينسج وهمًا مألوفًا يعطي الانطباع بقوة السلطة. وفي مواجهة شبح الاستعمار الجديد الذي أضحى جليًا بشكل متزايد، أصبحت صورة الدولة العربية التي تجرؤ على الاحتجاج بقوة وعلانية لتؤكد سيادتها وفرض احترامها، تمثل وجهًا منيرًا مألوفًا للمقاومة25 ولا تزال تحظى بشعبية كبيرة في بلد لا يزال فيه الوعد بالاستقلال الحقيقي مبعث للآمال.26 وبهذه الطريقة، تقدم الدولة للجمهور مشهدًا مشرفًا للقادة الذين يقفون، لأول مرة، في وجه أقوياء هذا العالم، وبالتالي يقدمون لحظة فخر في البلدان التي اعتاد أهلها المسحوقين أن يداس على رقابها.27
يهدف هذا الخطاب السيادي إلى “تنمية الشعور بالانتماء للمجتمع المتكاتف من خلال إنتاج وإعادة إنتاج هويات سياسية جماعية توّحد الناس حول فهم سياسي مشترك للحقائق، يمكن بالتالي استخدامه كأدوات لاكتساب شرعية سياسية”.28 وفي هذا السياق، تبذل السلطة الجهود بحثًا عن إعادة إنتاج وحدة الأمة في مواجهة الإمبريالية، وبذلك تصبح انتهاكات حقوق الإنسان والحريات السياسية، بقدرة قادر تأكيداً لسيادة الوطن وشعبه.
من الصعب إدانة هذا النوع من الخطاب في مجال سياسي لا تزال تهيمن فيه روح القومية، وتستمر، حتى وسط تيار اليسار، في كونها أيديولوجية تحررية.29 هذه الهيمنة تمهد الطريق أمام السلطة وتسهل مهمتها في إقصاء كل من يحتج من “المجتمع الوطني”، أو من يجرؤ على التحدث عن حقوق الإنسان، بحيث يصبح المعارضون خونة للأمة، وعملاء للإمبريالية.
وبالإضافة إلى الخطاب المناهض للتدخل الأجنبي، حاول النظام تفعيل أدوات بديلة في مجال العلاقات الدبلوماسية، من خلال تكثيف اللقاءات والمكالمات مع المسؤولين الصينيين والروس. وخلال بضعة أيام، جاء شبح البريكس ليغذي الخطاب المؤيد للأنظمة في وسائل الإعلام. هذا البحث عن حلفاء جُدد في عالم متعدد الأقطاب هو بمثابة إنجاز دبلوماسي يهدف إلى الحصول على اعتراف شعبي، من خلال إظهار صورة الدولة النشطة، التي تبحث عن حلول ولا تعتمد كليًا على الغرب.30 وهي إلى جانب ذلك، طريقة لتبليغ الشركاء الغربيين، الأميركيين والأوروبيين على السواء، أن تونس يمكنها أن تتوّجه إلى جهات أخرى، لكن، إذا كان لهذا التوّجه بعض التأثير الرمزي، تظل هذه المبادرات على أرض دون نتائج ملموسة حتى الآن. والأسوأ من ذلك أن الصين، الدائن البديل الرئيسي، حثت تونس، من خلال سفيرها، على إبرام اتفاق سريع مع صندوق النقد الدولي.
إذا كانت النتائج المتوخاة على الصعيد الدولي هزيلة، فعلى المستوى المحلي، يُسَجَل غياب تحقيق اللحمة الوطنية الموعودة، وعدم وجود أي حماس شعبي مُسانِد لهذه الخطابات؛ حيث أن كل ما نشهده في الواقع، هو عبارة عن خُطب الرئيس العنصرية اللاذعة ضد المهاجرين، والتي تحظى بقدر من النجاح لدى بعض فئات الشعب التي تبحث عن كبش فداء وضحايا يسهل تحميلهم المسؤولية عن الوضع البائس.
الهروب من التناقضات
في ظل حكم سعيد، مثلما هو الأمر في الماضي، هذه العودة الأبدية لـ “الخونة، العاملين لحساب جهات خارجية” تتيح للدولة إمكانية صرف أنظار الناس عما شكل عبر التاريخ، تناقضها الكامل: الدولة التونسية ما بعد الاستقلال جعلت من نفسها الوريث وحامل مشعل استمرارية نضالات التحرر الوطني، لكنها تنخرط في الوقت نفسه ضمن نسق استمرارية القوة الاستعمارية على مستويات عديدة. على الصعيد الاقتصادي، حافظت الدولة على انفتاحها على الأسواق الدولية، إذ جعلت أسمى طموحاتها، وضع نفسها في خدمة أوروبا حيث شكّل الاستثمار الأجنبي المباشر منذ فترة طويلة معيار جدي لقياس الوضع الاقتصادي الصحي للبلاد. أما سياسياً وثقافياً، على الرغم من الخطابات القومية والمزايدات في مجال قضايا الهوية، تظل الثقافة المهيمنة هي الثقافة العالمية، التي تتناقض بالتالي مع الثقافة الوطنية. في مواجهة هذه التناقضات، استثمرت الحكومة، ولكن أيضًا معارضيها إلى حد ما، في “مثالية النقاء كمحرك للتغيير”، حيث “يتوّجب العمل دون كلل، لنكون ما كُنا عليه من قبل، أي وطنيين”.31 وبذلك يتحوّل الطابع البنيوي للانفتاح على أسواق الغرب والاعتماد عليها مسألة أخلاقية: ينجم عن ذلك على مستوى المجتمع احتدام النقاشات التي تركز على الهوية وتلهب الأجواء في البلاد بشكل دوري، في حين يفضي هذا التوّجه على مستوى الأفراد، إلى ظهور نوع من المقياس القيمي، الذي يصنف الناس ويقسمهم إلى فئات؛ الوطني والخائن. ومثلها مثل الوحش الذي يلتهم صغاره، تلجأ الدولة وبشكل منتظم إلى عملية الإقصاء، المتمثلة في مطاردة “الخونة”32 من أجل “تطهير” وطن غير قادر على مساءلة نفسه بشأن تركيبته المختلطة وبشأن مسالك الهيمنة التي تتخلله.33
إذا عدنا إلى السؤال الذي طرحه الباحث المؤرخ محمد والدي، لماذا تصبح المعارضة السياسية، من منظور نوع معيّن من السلطة، شكلاً من أشكال الفتن التي يجب القضاء عليها، يمكننا عندئذ تقديم إجابة محتملة في ختام هذا التحليل، بحيث نرى أن دولة ما بعد الاستقلال تستمد شرعيتها من طابعها الوطني والمتفوق (وحتى المقدس). في حين، لكي تتمكن من الحفاظ على السلطة، فلا بد لها من إخفاء ارتباطها العضوي بالطبقات المهيمنة، وبشكل أوسع، بالقوى الإمبريالية. ولتحقيق ذلك، يتطلب منها إنكار الطبيعة الهيكلية لرسوخ انعدام المساواة داخل المجتمع، وبالتالي، تفرض الدولة نوعًا من الإجماع، خاصة حول كلمة “الشعب”، من حيث أن هذه الكلمة “توّلد الشعور بالمساواة”.34 لكن، بما أن هذا النوع من الإجماع غير قابل للصمود طويلاً بسبب التوترات الاجتماعية المتزايدة (يُلاحظ أن محاولة إخفاء هذه التوترات يساهم في الواقع في تفاقمها)،35 تلجأ إذن الدولة بانتظام إلى التلويح بفزاعة الخونة، العاملين لحساب الأجنبي. من نافلة القول أنه في ظل الحكم الاستبدادي، فإن تحويل المعارضة السياسية إلى فتنة مهددِة لتماسك الوطن، يسمح بضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: التخلص من المعارضين، واسترضاء المطالبين بالعدالة الاجتماعية من خلال مهاجمة جزء من النخب، وتعزيز هيمنة الإيديولوجية الوطنية القائمة على الإجماع.
هل ما زالت هذه المقاربة تؤتي أكلها؟
وصم الصراع الطبقي بـ”الخيانة”
إذا كانت السلطة الاستبدادية في تونس، كما هو الأمر في كل مكان في العالم، قد أنتجت على الدوام خونة عندما كانت في حاجة لهم لقمع المعارضة، فإن هذا الإنتاج لا ينفصل في حقيقة الأمر عن ديناميات الإقصاء والتمييز التي تفعل فعلتها داخل الجسم الاجتماعي منذ الاستقلال: إذا كانت الدولة تنتج بانتظام “خونتها”، فإن سبب ذلك يعود أيضًا إلى قابلية المجتمع على تقبل مثل هذه الاتهامات. وهذه الديناميكيات الاجتماعية، التي توّظف سجلات مماثلة (طاهر/غير طاهر؛ أصيل/زائف؛ وما إلى ذلك)، تغذي عملية إنتاج الخونة والعكس بالعكس.
وسوف أوّجه اهتمامي هنا بشكل خاص إلى مسألة مكانة النخب “العالمية” في المجتمع، وما أعنيه بالنخبة “العالمية” هم الأشخاص الذين يرسخون، في مجتمعات ما بعد الاستعمار، ويؤكدون ويعيدون إنتاج هيمنتهم من خلال الاستثمار في التقارب المادي والرمزي مع الغرب. وسواء أكان ذلك عن طريق اللغات الأجنبية المستعملة في الحياة اليومية، أم نوع التعليم الذي يتلقونه في البلاد أم حتى التعليم الذي تلقوه في الخارج، أم في كونهم من ذوي الجنسية المزدوجة، تستثمر بعض النخب التونسية إلى حد كبير في مجال التقارب مع الغرب للحفاظ على هيمنتها ورسم حدود طبقتها الاجتماعية. في الواقع، عادة ما تسعى هذه الطبقات سعياً حثيثاً لتميّز نفسها عن بقية الشعب، أو حتى عزل نفسها عنهم بإرادة طوعية36 منها وهذا الجهد المبذول للتمييز الاجتماعي تعززه بشكل يبدو متناقضًا، أيديولوجية وطنية ما بعد الاستعمار، حيث يفترض أن الانتماء للوطن والانتساب للنخبة العالمية، لا يجتمعان.
قامت عالمة الأنثروبولوجيا المصرية نهى رشدي بعمل رائع في هذا الموضوع، دار حول المدارس الدولية الخاصة في مصر. فهذه المدارس، حيث يصارع أولياء الأمور من الطبقة المتوسطة والعليا لتسجيل أطفالهم فيها، يُستثمر فيها بهدف تقديم أولياء الأمور لأطفالهم رأس مال تعليمي عالمي (مناهج المدارس الأجنبية، والتدريس بلغة أجنبية، وما إلى ذلك) في سياق يتميز بانسحاب كلي من الدولة من قطاع التعليم الحكومي. تسعى هذه الأسر إلى بتعزيز وإعادة إنتاج انتمائها إلى الطبقات العليا في ظروف غير مستقرة اقتصاديًا بشكل متزايد. ومع ذلك، ينظر أرباب هذه الأسر إلى هذه المدارس بشيء من الريبة، ويعتبرونها خطرًا قد يفضي إلى انسلاخ ثقافي لأطفالهم بالنظر إلى ما هو معروف عن مستوى تعليم اللغة العربية المتردي في هذه المدارس. وبطبيعة الحال، تعيش تونس الظاهرة نفسها: إذا كانت “البعثة الفرنسية”، وبدرجة أقل، “المدرسة الأميركية”، تمثل تاريخيًا فضاء إعادة إنتاج النخب العالمية، فاليوم نشهد في سياق سلْعَنة التعليم وتخلي الدولة عن قطاع التعليم العمومي، تكاثر هائل في تأسيس المدارس الخاصة التي تدعي أنها دولية (تدرس برامج كندية أو بريطانية أو أميركية أو حتى فرنسية).
وفي الحالة المصرية، تغرس هذه المدارس في أذهان الطلاب خطابات تجعلهم يشعرون من خلالها أنهم لا ينتمون إلى المجتمع المصري “الحقيقي” أو “الأصيل”. في هذه الفضاءات يبدو أن “الجميع متفقون على أن الانتماء إلى النخبة والانتماء الوطني، لا يمثلان الشيء نفسه في مصر المعاصرة. بالنسبة للكثيرين، فإن ما يستوْجب توفيره لتربية أطفال الطبقة المتوسطة والعليا يتناقض وغالبًا ما يقوّض ما يجب توفيره لتنشئتهم كمصريين.37 ) علاوة على ذلك، تنتج المدرسة “تمايزًا بين المصريين الحقيقيين، أو ما يمكن وصفهم بالأصليين (الفقراء الذين يزاولون دراستهم في المدارس الحكومية)، والأطفال الذين “ليسوا مصريين حقًا” بسبب ما يحضون به من امتيازات ونمط حياتهم العالمية”،38 مما يغرس في نفوس هؤلاء التلاميذ نوعًا من الشعور بالذنب.
هذا التماثل الإقصائي، من جهة الانتماء إلى النخبة ومن الجهة الأخرى الانتساب إلى الأمة، يقوم على سمة أساسية (نادرًا ما يتم الاعتراف بها) تُميّز دول ما بعد الاستعمار، حيث تشير إلى : وجود “فجوة أساسية عميقة بين الثقافة الوطنية الرسمية التي تحظى برعاية الدولة وبين الثقافة المهيمنة اقتصاديًا واجتماعيًا” من قبل النخبة العالمية، بحكم الأمر الواقع.39
ومن هنا يبدو جليًا أنه على الرغم من الخطابات الوطنية الرنانة والخطابات التي تركز على الهوية، وعلى الرغم من الجهود المبذولة في مجال التعريب،40 لا تزال “الثقافة الشرعية” في دولٍ مثل تونس أو مصر، هي ثقافة تستلهم أفكارها ونفوذها من القوى الاستعمارية، حيث أن القرب من الغرب يزيد من فرص الارتقاء إلى قمة الهرم الاجتماعي.41 وفي إطار هذه التركيبة، تواجه النخب المنبثقة عن الثقافة الوطنية الرسمية، أي الناطقة بالعربية، والتي تلقت تعليمها حصريًا في نُظم المدارس والجامعات العمومية، سقفًا زجاجيًا، تحت حراسة شرسة من النخب العالمية.42 وهذا التناقض بين الثقافة الوطنية الرسمية المهيمن عليها، والثقافة السائدة ذات الاستلهام الاستعماري، يجد أفضل ترجمة له على أرض الواقع في صورة الوزراء أو رؤساء الجمهورية الذين يستخدمون الوطنية بحماسة وإسهاب وخطاب “خيانة العاملين لحساب الأجانب” ضد خصومهم، في حين يسجلون أبناءهم في المدارس الثانوية الأجنبية.43
إن الطبيعة الحقيقية غير المعترف بها صراحة لهذا التباين الصارخ بين الثقافة الوطنية المهيمَن عليها والثقافة العالمية المهيمنة، تُصاحبها مساعي حثيثة ترفض ترجمتها على حقيقتها بكونها تشكل نوعًا من الطبقية الاجتماعية. وما كان يمكن التعبير عنه على أنه يمثل صراعًا طبقيًا، لا يزال موضع التفاف عليه من قبل مختلف القوى الاستبدادية القائمة، حيث يتم صرف الأنظار عنه عن طريق اعتماد خطاب وطني يصطنع تقسيمًا بين “التونسيين الحقيقيين”، ومن جهة ثانية فئات بأوصاف عديدة، من قبيل الطابور الخامس التابع للاستعمار الجديد، أو مبعوثي الخليج، أي بعبارة أخرى، فيلق “الخونة، العاملين لحساب الأجانب”.44 وفي تونس 2023، على أساس هذا الوضع الغامض، يقوم التفاهم بين سعيد، الذي يُعتبر الناتج الأصيل بامتياز للثقافة الوطنية المهيمن عليها،45 ومن ثم الممثل الوفي للطبقات المحاصَرَة اجتماعيًا واقتصاديًا، وحلفاؤه، القادمين من تيارات القوميين العرب، الخاضعين هم أنفسهم لهيمنة داخل النخب، وجزء من الطبقات الشعبية الباحثة عن العدالة الاجتماعية: “نحن” المهيمن علينا ضد “هم”. وضمن مجموعة “هم”، نجد خليط من “الفاسدين”، و”العالميين”، والطبقة السياسية (ولكن أيضًا ساسة المجتمع المدني) الذين استغلوا التحوّل الديمقراطي للارتقاء اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا، أو لتعزيز موقعهم المهيمِن، حيث يزيد وضع جزء كبير من الشعب سوءًا وفقرًا.
وهكذا نجِد أن التناقض الكبير داخل المجتمع، الذي تركه اليسار المُتردِد في انتقاد النزعة القومية دون أن يستثمر فيه، يعاد استغلاله من قبل السلطة لتجعل من معارضيها “خونة” مأجورين، أصبحوا أثرياء بفضل ما يتقاضونه من الخارج. والهدف من ذلك هو إضفاء مظهر السعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية على عملية مطاردة الخونة، وسط فئات الشعب التي شهدت تدهور ظروفها المعيشية منذ الثورة، والذين يلاحظون، ولو من خلال وفرة غير مسبوقة في تاريخ البلاد من منتجات استهلاكية فاخرة، مدى عمق الفجوة وضخامة عدم المساواة. ومن المثير للاهتمام في هذا الصدد ملاحظة أن الكثير من الناس في تونس يعتقدون أن المعارضين السياسيين الذين زَجَ بهم سعيد في السجن متهمون بالفساد أو الإثراء غير المشروع (ولا سيما المسؤولين التنفيذيين في حزب النهضة) في حين أن اعتقالهم من قبل النظام جاء بتهمة “التآمر ضد الدولة” والتخابر مع جهات أجنبية. وما يبدو للوهلة الأولى أنه خلط بسيط فحسب، يكشف في الواقع هشاشة التحالف القائم بين الحكومة والفئات الشعبية التي تدعمها. وفي حين تستأنف السلطة سعيها إلى استخدام الاتهامات القديمة ضد خصومها، المتعلقة بالخيانة والعمالة للخارج، يتضح أن مثل هذا المنحى لم يعد يجتذب الناس ويحقق التعبئة المرجوة. لذا، بات واضحًا أن استخدام عبارات مثل، “الحرب ضد الفساد” والإثراء غير المشروع واتساع رقعة المتعطشين إلى أي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية في صفوف فئات شعبية واسعة، هو الذي أصبح يعبئ الناس ويلفت اهتمامهم، بعد أن هيمنت على المشهد السياسي منذ عام 2014 الخطابات التبسيطية والأخلاقية المناهضة للفساد.46
نظام حكم بلا آفاق
حتى وإن كانت اتهامات “الخيانة” مبنية على ركائز قوية داخل المجتمع، ثمة شكوك حقيقية حول مدى قدرتها فعليًا على تعبئة الشعب التونسي على المدى البعيد. إن الجهود المبذولة من قبل السلطة لتحقيق وحدة تلتف حول الدولة في مواجهة “الخونة” والغرب، تظل جهودًا بعيدة كل البعد عن الإقناع والفعالية. وباستثناء بعض عناصر الشتات والنخب المسيّسة المنتمية لفضاء القومية العربية، لم تجد الخطابات القومية التي تروّجها السلطة وحلفاؤها صدىً كبيرًا لدى المواطنين.
لا يزال الاقتصاد يشكل الشغل الشاغل بالنسبة للمواطنين، وهنا تحديدًا يبدو أن السلطة تتعثر ولا تجد حلًا له، بحيث لم يتم التوّصل إلى أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ويبدو أن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي مهدد بالفشل بسبب أرقام الهجرة التي لا تشهد تناقصًا، إلى جانب عدم احترام الإجراءات على المستوى الأوروبي. وتسبب اعتماد إجراءات التقشف الصارمة بدوره في نقص في تزويد الأسواق بالمواد الغذائية، مما يجعل المواطنين في وضع مضطرب، أكثر فأكثر، بينما يُراد إيهامهم بأن الأمر يتعلق بمؤامرات تحاك ضد البلد.
إن محاولة إعادة تدوير خطاب ما بعد الاستقلال، من خلال التسويق لصورة الدولة الضعيفة الفتية ولكن الحامية، لا تأخذ بعين الاعتبار أن الدولة التونسية في سنة 2023 ليست بأي حال من الأحوال دولة الاستقلال. وإذا كان الوعد المقطوع في عام 1956 بأن “التحرر الوطني سوف يحقق جميع الحريات الشخصية”،47 فإن نظام عام 2023 ليس لديه أي شيء يَعِد به الشعب التونسي، ولا يمكن اليوم الحديث لا على تحرير وطني، ولا تنمية، ولا حتى العودة إلى العقد الاجتماعي السائد آنذاك، حيث كان السكوت والطاعة للدولة يمثلان المُقابل للحماية الاجتماعية الفعالة والخدمات العمومية الديمقراطية. وحتى العقد الاجتماعي المتبع إبان دكتاتورية بن علي، حيث تم التعويض عن الأجور المتدنية بأسعار منخفضة للمواد الاستهلاكية، وعمليات الدعم، وإضفاء الطابع الديمقراطي على الاستهلاك من خلال استخدام الائتمان المصرفي، أصبح اليوم مجرد وهم بعيد المنال.
وبطبيعة الحال، فإن الموارد المالية محدودة، والسياسة المالية العامة متقشفة بشكل علني، غير أن طبيعة الدولة ذاتها هي التي تغيّرت، بعد أن اجتذبتها موجة الليبرالية الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي تقع في تسارع محموم مع التحوّل الديمقراطي. يستمر نظام سعيد على المسار نفسه، من خلال زيادة وتيرة السرعة أكثر من أي وقت مضى. كما نجد أن آخر ما تبقى من دعائم الحماية الاجتماعية، المتمثلة في إجراءات دعم السلع الغذائية الأساسية، أصبح بالفعل وبحكم الأمر الواقع، في خبر كان، فيما أدت حالات النقص في المواد الاستهلاكية في الأسواق، إلى جعل اضطرار الفرد الاعتماد على وسائله الخاصة، أمرًا طبيعيًا. أما بالنسبة للخدمات العامة والصحة والنقل والتعليم فوق كل ذلك، فقد تخلت الدولة عن هذه القطاعات منذ سنوات عديدة، مما فتح الأبواب مُشرعة أمام الخصخصة.48 وفي غياب عقد اجتماعي جديد، فكل ما يمكن للدولة أن تقدمه اليوم، يتلخص في سراب عنوانه “كل شيء سيكون على ما يرام، فور القضاء على الأشرار”، أي تجديد سياسة الانتظار التي أصبحت غير مقنعة ولا يعوّل عليها كثيرًا، في ظل وجود جزء كبير من المعارضة خلف القضبان.
على المدى المتوسط، ومع تدهور الوضع الاقتصادي – وليس هناك ما يمكن التنبؤ به سوى تفاقمه – فإن تقاطع المصالح بين المواطنين الذين يسعون إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين ظروفهم المعيشية وبين سعيد بطل الشعب – المتفرج، في مواجهة “الخونة” و”الأشرار”، سيواجه مثل هذا التقاطع امتحانًا عسيرًا. وإذا كان سعيد يدعو الشعب اليوم إلى التحلي بالصبر، فلا يُستبعد منه أن يُقْدِم، في مواجهة زيادة محتملة في الاحتجاجات، على توسيع دائرة الخونة لتشمل أطرافًا أخرى49 ومن ثم يُحوّل المتظاهرين المحتملين إلى “متلاعب بهم”. وما لم يتحسن الوضع الاقتصادي، فإن القطيعة تبدو أمرًا حتميًا لا مرد له.
لكن من الضروري تقليل مدى تأثير هذه القطيعة. وحيث يتوّقع الكثيرون سقوط سعيد المحاصَر في مجال الاقتصاد، فإن العلاقة السببية المتوّقعة هنا غير مؤكدة. فالمعارضة نفسها ليس لديها شيئاً ذا قيمة لتقدمه كبديل، ومما لا شك فيه، أن الخيار بين سلطة استبدادية مركزة بلا أفق اقتصادي، وبين العودة إلى لعبة ديمقراطية غامضة ومحل نزاعات حادة فضلاً عن افتقارها هي أيضاً لآفاق الاقتصادية، فإن التفضيل الشعبي سيتجه على الأرجح نحو معارضة الوضع الاستبدادي الراهن.
خاتمة
بعد مضي اثني عشر عاماً من سقوط بن علي، لا يزال التكفل بالتسوية السياسية لحالات عدم المساواة وتأثيرها على نوعية معيشة الناس، في مرحلتها الجنينية. وتقتضي المعالجة السياسية للانقسامات في البلد ابتكار رؤى مستقبلية للبلد، وطرح آفاق جديدة، وهذا ما تفتقر إليه البلاد بشدة منذ عام 2011. فلا سعيد ولا معارضيه، يملكون أي مقترحات على هذا المستوى: الأفق المستقبلي الوحيد المقترح حتى الآن يتمثل في التطهير أو الإقصاء أو القضاء على مجموعة معيّنة (العلمانيون، الإسلاميون، الفاسدون، الخونة، وما إلى ذلك). أما أفق حياة الناس بكل بساطة، أفق حياتهم اليومية، وصحتهم، وتعليمهم، ووسائل نقلهم، ونوعية معيشتهم، وما تعنيه الحرية والديمقراطية والعدالة في هذا البلد، فكل ذلك يظل دون إجابة.
يستوْجب خلق الآفاق نقد الوطنية باعتبارها أيديولوجية تحررية. وتوّظف الوطنية، منذ الاستقلال، لإنكار الانقسامات الطبقية وكتم الدعوة المطالبة بالمساواة بين المناطق، أما اليوم، فالوطنية الوحدوية تخلق عقماً سياسياً حيث الأفق الوحيد المطروح يُختصَر في التطهير. والمفارقة العجيبة هنا، أننا في بلد لا تتوّقف فيه النخب السياسية عن اعتبار الشعب غير ناضج إلى حد كبير فيما يتعلق بالديمقراطية، في حين أن عدم نضج هذه النخب نفسها، المترجم على أرض الواقع في رفض تحررها من التموْقع القومي والأخلاقي أو المتصل بالهوية، وعدم تحملها المسؤولية السياسية فيما يحدث من انقسامات وصراعات داخل المجتمع، هو ما يسبب جزئياً عودة البلاد إلى مربع الدكتاتورية.