شيطنة الجمعيات في تونس .. لا تزر “وازرة” وزر أخرى!!

يحجر على الجمعيات قبول مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة عن دول لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية

تعدّ فكرة وفلسفة إنشاء الجمعيات قديمة ومرتبطة بالمراحل الأولى للتنظّم البشري وقد تطوّرت مع الزمن لتكتسب أهمية كبرى في حياة الشعوب وتتحوّل الى ميزة المجتمعات الراقية والديمقراطية . ويقاس نجاح الدول بمدى نشاط المجتمع المدني فيها. وتعتبر تونس رائدة في هذا المجال حيث أصدر “علي باي” أمرا في الغرض بتاريخ 15 سبتمبر 1888، شرّع فيه الإطار العام لممارسة حق تكوين الجمعيات، وهو ما سمح للتونسيين بإنشاء العديد من الجمعيات الثقافية والعلمية والشبابية والرياضية وعدد منها كان له دور حاسم في احتضان المقاومة ضدّ الاستعمار.

وبعد الاستقلال صدر القانون عدد154 لسنة 1959 المتعلق بتنظيم الجمعيات؛ والذي كان يفرض الحصول على “تأشيرة” من وزير الداخلية لتأسيس جمعية مّما جعل التضييق كبيرا على العمل الجمعياتي .

وهو القانون الذي بقي معمولاً به إلى أن صدر المرسوم الجديد عدد 88 لسنة 2011 والذي ألغى نظام”التاشيرة” لكنه فتح باب الفوضى أمام العمل الجمعياتي حيث بلغت الى حد اليوم 25 ألف جمعية ليعود الحديث والجدل هذه الأيام على ضرورة تنقيح هذا المرسوم وتكثيف الرقابة عليها بعد حياد بعضها عن الأهداف المرسومة لها. وانخراط البعض منها في مخطط لتوطين المهاجرين الأفارقة غير النظاميين بتونس .

حيث تعرّف الجمعية على أنها هيكل لخدمة المواطنين ومعاضدة جهود الدولة في التنمية ولأهداف ربحية لها ومداخيلها وجب أن تصرف بالضرورة على أنشطتها الاجتماعية .

الجمعيات في تونس

مثلما أشرنا الى ذلك من قبل يبلغ عدد الجمعيات بتونس 25 ألف جمعية منها 219 أجنبية ويرتكز أكثر من ثلثها بتونس العاصمة ما يؤكّد غياب التوازن في العمل الجمعياتي بين المركز والجهات .

وهذا العدد الكبير يقابله ضعف في العمل الجمعياتي وذلك بسبب أنّ أغلبها غير ناشط وعدد منها يستغلّ لأغراض شخصية أو حزبية حيث أنشئ عدد من الجمعيات ليكون واجهة لأحزاب سياسية و بنك خلفي لها يتلقى التمويلات الداخلية والخارجية بدلا عنها بحكم منع القانون التونسي للتمويل الأجنبي للأحزاب وإتاحته للجمعيات.

ووفق أرقام نشرت في دراسة بعنوان “النّشاط الجمعياتي في تونس بين الميوعة التشريعيّة والضبابيّة التنظيميّة” فانّ أكثر من 70% من هذه الجمعيات، ليست لها مقرات ولا هيكلة إدارية رسميّة يمكن من خلالها الاتصال بها أو التعامل معها بشكل رسمي؛ بل مازالت أغلب الجمعيات الناشطة في تونس”إفتراضية” وليس لها مواقع على صفحات “الواب” ولا حتى عناوين مراسلة بريدية، ولا تعرف مؤسّسات الدولة مواقعها وليس لها فكرة عن أنشطتها ولا حجم تمويلاتها أو مصادرها.

فوضى قانون الجمعيات

يتكوّن قانون الجمعيات من 49 فصلا موزعةعلى9 تعرّف العمل الجمعياتي وشروط التأسيسي وموارد التمويل وأوجه الصرف واهمّ ما ورد فيه هو التأكيد على أن الجمعيات مشاريع غير تجارية ولا ربحية وهو مخالف لواقع الحال لدى عدد من الجمعيات التي هدفها الأول تجميع الأموال وصرفها ذاتيا مقابل صفر نشاط أو نشاط مموّه وهو ما يفسر أن جلّ هذه الجمعيات لا تقدّم تقاريرها المالية السنوية بانتظام .

وتعدّ المادة 21 من القانون المذكور المسؤولة عن كل هذه الفوضى حيث تمّ إلغاء “نظام الترخيص” المسبق وتعويضه بـ”نظام التصريح” أو الإعلام، وإلغاء الاختصاص التقديري لوزارة الداخلية، حيث ينص الفصل العاشر (10) من هذا المرسوم على أن “يخضع تأسيس الجمعيات إلى نظام التصريح”.

أمّا الفصل الأخطر فهو الذي يمنح حقّ الأجانب تأسيس جمعيات بتونس وهو الفصل 8 الذي تشير النقطة الأولى فيه الى ” لكل شخص طبيعي، تونسي أو أجنبي مقيم في تونس، حق تأسيس جمعية أو الانتماء إليها أو الانسحاب منها وفق أحكام هذا المرسوم.” فهذا الفصل الغريب وجب تنقيحه فورا فحتى أعرق الدول في الديمقراطية لا تسمح بتأسيس جمعيات من أطرف أجانب .

وكذلك الفصل 20 الذي ينص على” الجمعية الأجنبية فرع جمعية مؤسسة بموجب قانون دولة أخرى. يتأسس فرع الجمعية الأجنبية في تونس وفق أحكام هذا المرسوم.”

فما يلاحظ في تونس هو انتصاب جمعيات أجنبية على أنها فروع لجمعيات أم في بلدانها لا نشاط لها ولا وجود ظاهر فالهدف منها هو تبييض الأموال واستغلال القانون التونسي للجمعيات في هذا المجال.

كذلك يعتبر الفصل 35 والذي ينصّ على انه” يحجر على الجمعيات قبول مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة عن دول لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية أو عن منظمات تدافع عن مصالح وسياسات تلكم الدول.” وهو من أكثر الفصول التي لا تطبّق من طرف الجمعيات التي تحمل أجنداتها الخاصة و تراكم الأرباح على حساب المصلحة العامة وخدمة المواطنين. ويظهر هذا خاصة لدى الجمعيات المهتمة بالشأن السياسي والثقافي أو ما عرف بدعم الانتقال الديمقراطي بين سنوات 2011 و2019 وهو الشعار الفضفاض الذي عبره تسللت التمويلات الخارجية وكذلك الجمعيات الأجنبية .

أمّا اليوم فقد حوّلت هذه الجمعيات أنشطتها أو تمعّشها الى المهاجرين غير النظاميين ونصّبت نفسها مدافعة عنهم وناطقة باسمهم والهدف هو مراكمة أكبر قدر من الأموال .

الشيطنة ليست الحل

رغم ما تقدّم وما تعرّضنا له من فوضى العمل الجمعياتي في تونس وحياد عدد كبير من الجمعيات عن أنشطتها الرئيسية وعدم نشاط عدد أكبر من الجمعيات فانّ العمل الجمعياتي بتونس يعدّ مفخرة للتونسيين في محيطهم الإقليمي لما قدمته عدد من الجمعيات والمنظمات المحترمة للمواطنين بمختلف فئاتهم وأعمارهم . فالهلال الأحمر يعدّ مرجعا في العمل الجمعياتي وأقدمها تأسيسا في المنطقة العربية حيث تأسست خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد الاستقلال تم إعادة تأسيسها سنة 1956. وتنتمي جمعية الهلال الأحمر التونسي إلى الحركة الدولية لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر. وهي تتعامل مع جمعيات تونسية في إطار الشفافية .

كما أن عددا هاما من الجمعيات تقدّم يوميا خدمات للمواطنين وللأطفال

وللمعوقين ولها مقارّ معلومة وعناوين واضحة وتقدّم تقاريرها المالية بصفة منتظمة وتنظم جلساتها الانتخابية وهي محل ثقة من طرف السلطات .

عود على بدء

كما ذكرنا فالجمعيات هي هياكل غير ربحية هدفها خدمة المواطنين وكل حياد عن هذه الغاية يخرجها من العمل الجمعياتي ويعرّضها للمسائلة القانونية.

كما أنه من الضروري التفريق بين الجمعيات الوطنية التي مصادر دخلها وصرفها واضحة ولا تعتمد التمويل الأجنبي وأنشطتها موجهة للتونسيين دون غيرهم وبين الجمعيات الموجّهة والمشبوهة .

وعلى لجنة التحاليل المالية ومختلف البنوك التونسية العمل على مزيد التحرّي عن الأموال التي تحوّل الى الجمعيات ومطالبتها بأوجه صرفها والبرامج الوطنية التي أنجزتها.

ومن الحتمي تنقيح قانون الجمعيات وتكثيف الجانب الرقابي فيه عن حركة الأموال وعن العلاقات العامة والأنشطة .

ووجوب تجميد كل جمعية لا تقوم بأي نشاط مباشر يفيد المجتمع التونسي خلال عام من تأسيسها حيث ان عددا كبيرا من هذه الجمعيات نشاطه الوحيد جمع التبرعات وتلقّي التحويلات من الداخل والخارج .والإساءة إلى تونس.